{وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)}.التفسير:الصّدقات: جمع صدقة، وهى المهر.. لأنها من مادة الصّدق الذي يلزم به المرء نفسه، وينطق به عن اطمئنان ورضى.. والمهر يقدمه الرجل للمرأة عن رضى وطيب نفس.. ومنها الصّدقة التي يبذلها الإنسان في مجال الإحسان من غير إلزام.والصدقة بضمّ الدال، والصّدقة بفتحها.وفى استعمال الأولى في المهر، والثانية في التصدّق إعجاز من إعجاز القرآن! فالصدقة- بالضم- أثقل نطقا من الصّدقة بالفتح.وكذلك هما على هذا الشأن، في مجال التطبيق العملي لهما.فالمهر ثقيل في قدره، ومادته، قد يتكلف له المرء كثيرا من الجهد حتى يحصل عليه، وقد يقتطع له قدرا كبيرا من ماله، الذي هو بعض نفسه.. ومن هنا كان ثقله على النفس، ثم كان ثقله على اللسان! وليس كذلك الصّدقة، فإن محملها خفيف، يؤديها الإنسان عن سعة، ويجود بها من فضل ماله، فلا يكاد يحسّ بها.. {ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}.فقد تكون الصدقة بشقّ تمرة، كما في الحديث الشريف: {تصدّقوا ولو بشقّ تمرة} وقد تكون بالكلمة الطيبة، كما في الحديث أيضا: {الكلمة الطيبة صدقة}.والجامعة بين الصدقة (المهر) والصّدقة (الإحسان) أن كلّا منهما من باب البرّ والخير، وأنهما من موارد مرضاة اللّه ورضا الناس.وقوله تعالى: {نِحْلَةً} أي فرضا وشريعة.ولأن للرجال على النساء درجة، فقد أوجب اللّه على الرجال أن يقدّموا بين يدى المرأة عند طلب الزواج منها مهرا، تهيىء به نفسها، وتصلح به من شأنها قبل أن تجتمع إليه، وفى هذا ما يشعرها بمكانة الرجل منها. وأنه هو الذي سيحمل الجانب المادىّ عنها، في السعى للرزق والنفقة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ} [34: النساء].والمهر حقّ للزوجة، يجب أن يؤديه الرجل إليها، فإن هو صار إلى يدها ثم طابت له نفسها عن شيء منه، فذلك فضل منها، وليس على الرجل من بأس في أن يقبله، ويتصرف فيه كما يتصرف فيما يملك.وأقل المهر أىّ مال يدخل الفرحة على المرأة وقد يجزى عن المال العمل، كما زوّج شعيب ابنته من موسى، بالخدمة عنده سنوات معدودات.ولا حدّ لأكثره، حسب يسار الرجل وقدرته.. إنه باب من أبواب الإحسان، ومسلك من مسالك الخير، وليس ثمة حرج في أن يبلغ المهر من الكثرة ما يبلغ، مادام له في مال الرجل سعة، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً} [20: النساء].والمكروه في المهر أن يكون عن مماكسة ومساومة بين الرجل، وزوجه، أو بينه وبين أهلها أو يكون فيه إرهاق للرجل بما لا يحتمله ماله، ولا يتسع له كسبه.ذلك أن المهر ليس إلا مدخلا إلى علاقة إنسانية، وطريقا إلى رابطة نفسية، ومن أجل هذا يجب أن يكون النظر إليه من وراء هذه العلاقة وتلك الرابطة.!وفيما قصّ اللّه سبحانه وتعالى من تلك الصورة الكريمة التي زوّج بها نبىّ اللّه شعيب نبىّ اللّه موسى ابنته- في هذا ما يكشف عن أدب عال، وحكمة رائعة، ينبغى أن تكون فيها الأسوة في هذا المقام.. يقول اللّه تعالى على لسان شعيب مخاطبا موسى:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}.ويجيبه موسى بقوله: {ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ} [27- 28 القصص] وهكذا يقضى الأمر بينهما.. فلا مساومة ولا مماكسة!!